– فصل ( في عظيم كرم الله وفضله وحكمته ولطفه ) -
فرغ خاطرك للهم بما أمرت به ، ولا تشغله بما ضُمِن لك ، فإن الرزق والأجل قرينان مضمونان ، فما دام الأجل باقيا ،
كان الرزق آتيا ، وإذا سد عليك بحكمته طريقا من طرقه ، فتح لك برحمته طريقا أنفع لك منه ،
فتأمل حال الجنين يأتيه غذاؤه – وهو الدم – من طريق واحدة – وهو السرة - .
فلما خرج من بطن الأم ، وانقطعت تلك الطريق ، فتح له طريقين اثنين وأجرى له فيهما رزقا أطيب وألذ من الأول لبنا خالصا سائغا .
فإذا تمت مدة الرضاع ، وانقطعت الطريقان بالفطام ، فتح طرقا أربعة أكمل منها : طعامان وشرابان ، فالطعامان من الحيوان والنبات ، والشرابان من المياه والألبان وما يضاف إليهما من المنافع والملاذ .
فإذا مات ، انقطعت عنه هذه الطرق الأربعة ، لكنه سبحانه فتح له – إن كان سعيدا – طرقا ثمانية ، وهي أبواب الجنة الثمانية ، يدخل من أيها شاء .
فهكذا الرب سبحانه ، لايمنع عبده المؤمن شيئا من الدنيا ، إلا ويؤتيه أفضل منه وأنفع له ، وليس ذلك لغير المؤمن ،
فإنه يمنعه الحظ الأدنى الخسيس ولا يرضى له به ، ليعطيه الحظ الأعلى النفيس .
والعبد – لجهله بمصالح نفسه ، وجهله بكرم ربه وحكمته ولطفه – لا يعرف التفاوت بين ما منع منه وبين ما ادخر له
بل هو مولع بحب العاجل وإن كان دنيئا ، وبقلة الرغبة في الأجل وإن كان عليا .
ولو أنصف العبد ربه – وأنى له بذلك – لعلم أن فضله عليه فيما منعه من الدنيا ولذاتها ونعيمها أعظم من فضله عليه فيما آتاه من ذلك ، فما منعه إلا ليعطيه ، ولا ابتلاه إلا ليعافيه ، ولا امتحنه إلا ليصافيه ، ولا أماته إلا ليحييه ، ، ولا أخرجه لهذه الدار إلا ليتأهب منها للقدوم عليه وليسلك الطريق الموصلة إليه .
ف ( جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا )
الفرقان ( 62 )
( وأبى الظالمون إلا كفورا ) الإسراء ( 99 )
والله المستعان .
من كتاب الفوائد لابن قيم الجوزية